احتمالات الحرب والتّسوية بين غزّة ولبنان
مضى ١١٥ يوماً على حرب الإبادة في قطاع غزّة و١١٤ يوماً على معركة المساندة في جنوب لبنان، ولم تستطع «إسرائيل» فرض إرادتها وتحقيق شروطها على الجبهتين!
في غزّة دمار وقتل وتشريد وانتقام لم يشهد له العصر الحديث مثيلاً، وهذا ما أقرّت به محكمة العدل الدّوليّة بمجرّد قبولها النّظر بالدّعوى المقدّمة من «جنوب إفريقيا» ما وضع الكيان أمام مسار جديد في علاقاته الدّوليّة ونظرة العالم إلى حقيقته الّتي كان يخفيها خلف ستار المظلوميّة والأحقّيّة وخلف قناع الحرّيّة والدّيموقراطيّة والتّطوّر والتّقدّم وسط عالم ديكتاتوريّ متخلّف وهمجيّ، كما كان يسوّق.
وعليه، وحسب قادة رأي وسياسة غربيين وإسرائيليين، فإنّ الخسارة الكبرى على مستوى العلاقات العامّة قد وقعت وستبقى ارتداداتها على مدى سنوات وعقود ما لم تقرّ «إسرائيل» بالحقّ الفلسطيني بدولة متكاملة الأوصاف والحقوق.
وانطلاقًا من الخسارة الميدانيّة، بالفشل في تحقيق الهدفين المعلنين للحرب، قالت «القناة 14» الإسرائيلية: «لقد رضخنا للضغوطات، إسرائيل تتقدّم باتّجاه صفقة تبادل أسرى ستؤدّي في نهاية المطاف إلى وقف الحرب أمام حركة حماس»، وقد ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أمس أنّ حركة حماس و«إسرائيل» اقتربتا من توقيع اتّفاق هدنة لمدّة شهرين يتخلّله إطلاق سراح نحو مئة أسير إسرائيلي برعاية الأمم المتّحدة ووساطة قطر وبعض الدّول الأخرى.
وقالت صحيفة «هآرتس» العبريّة أمس أيضاً: «الجيش الإسرائيلي لا يعارض تهدئة غير قصيرة في غزة، وكبار قادة الجيش يعتقدون أنّ الوقت أمام استعادة الأسرى والمحتجزين ضيّق» إلى ذلك أكّدت «هيئة البثّ الاسرائيليّة» وصول وفد أمني إسرائيلي إلى باريس لبحث صفقة تبادل أسرى مع الولايات المتحدة والوسيطين القطري والمصري.
فهل نضجت ظروف تسوية كهذه؟
برغم كلّ الكلام والوساطات والمقترحات، وليس آخرها المقترح البريطاني الّذي كشفت عنه صحيفة «فاينانشيال تايمز» أوّل من أمس، فإنّ الفجوة بين ما تعرضه «إسرائيل» وما تطلبه حماس كبيرة جدًّا، ففي حين يسعى «نتنياهو» لقطف انجاز سياسيّ بعد الاخفاق العسكري، ترى قيادة حماس بأنّ الثّمن الّذي دفع في غزّة من دماء الأبرياء وأرزاقهم يحتّم عليها التّمسّك بشروطها، فالقبول بشروط العدو تعني الهزيمة، ومن صمد في الميدان وسطّر أروع أنواع الملاحم لن يرضخ للضّغوط مهما ثقلت.
ثمّ إنّ «إسرائيل» أحرقت كلّ أوراقها على مدى ١١٥ يوماً وليس لديها أيّ جديد تقدّمه، أمّا معركة «خانيونس» فستكون نتيجتها كسابقاتها: مزيد من الخيبة وكثير من الخسائر، وتثبيت لقاعدة المقاومة: لن يعود الأسرى أحياءً إلّا بالتّفاوض.
لذلك فإنّ ملامح الصّفقة لم تكتمل والعناد الّذي يتحكّم بمواقف «نتنياهو» سيطيل أمد الحرب وإن اختلف شكلها وانسحب عدد من ألوية الاحتياط من الميدان كما أعلن الإعلام العبري أمس.
الرّهان الأكبر لوقف الحرب يبقى على الدّاخل الإسرائيلي وتصدّع حكومة الحرب، وقد بدأ زعيم المعارضة «يائير لابيد» خطوات عمليّة أمس في هذا الإطار بدعوة الهيئة العامة للكنيست للتّصويت على مقترح لحجب الثقة عن الحكومة اليوم.
إذا استجاب رئيس الكنيست للدّعوة وتمّ التّصويت ستكون نتائجه مؤشّراً على مسار الحرب في المرحلة المقبلة، فإذا جاءت لمصلحة «نتنياهو» سنكون أمام مزيد من التّعنّت والعناد، وربّما علينا انتظار اللّحظة المناسبة لحملة «جو بايدن» الانتخابيّة ليقطف وقفاً لإطلاق النّار يوظّفه لصالحه بعد تدنّي مؤشّرات التّأييد له إلى مستويات قياسيّة منذ عقود.
أمّا على جبهة الشّمال، عندنا في الجنوب، فلا داعي للخوض في تصريحات اللّبنانيين المتعاطفين مع العدو، أولئك الّذين يهوّلون علينا بالحرب ويخترعون أخبارًا ينسبونها إلى إعلام العدو ليظهروا مدى دناءة أحلامهم وهشاشة أوهامهم، ولو كان فيهم شيء من الإنسانيّة والوطنيّة لخجلوا من أنفسهم بعدما نقلت صحيفة «معاريف» خبرا مفبركا منسوبا إلى مراسل المنار يعكس هلعاً لبنانياً من الحرب، فتلقّفه بعض اللّبنانيين وروّجوه نقلا عن الصّحيفة نفسها.
ثمّ جاءت عظة البطريرك الرّاعي المشبعة بعبارات كنّا نظنّها غريبة عن منطق الوحدة والتّعايش والمحبّة بين اللّبنانيين رغم اختلاف مشاربهم الثّقافيّة وتوجّهاتهم السّياسيّة، فإذ ببطريرك انطاكيا وسائر المشرق ينقل عن أناس لم يسمّهم مصطلحات لا تليق بمقامه الرّوحي ولا بمبدأ «الشّركة والمحبّة» الّذي رفعه يوم تنصيبه على رأس الكنيسة المشرقيّة!
نلفت عناية غبطته وسائر الخارجين عن منطق «الشّركة والمحبّة» إلى أنّ «إسرائيل» عاجزة وخائفة من لبنان ومقاومته، ولو كانت تستطيع خوض الحرب معنا لفعلتها من دون إذن من أحد، ومن دون ذريعة ولا حجّة ولا سبب، ولكن الّذي يمنعها هو قوّة المقاومة وقدرتها واحتضان أهلها لها من كافّة الطّوائف، ولكم في استطلاع الرّأي الّذي نشره مركز واشنطن لسياسات الشّرق الأدنى خير دليل.
بالمناسبة، قليل من التّأمّل يوضح للّبنانيين الحقيقة الّتي يعيشها الإسرائيليّون: قبل العام ٢٠٠٠ كانت «اسرائيل» تقيم منطقة أمنيّة مع بعض عملائها داخل أرضنا لتحمي حدود فلسطين، اليوم مقاومتنا تقيم منطقة أمنيّة داخل أرض فلسطين ببضعة صواريخ وطائرات مسيّرة يوميًّا، حسب تعبير المستوطنين أنفسهم، فاقتضى التّنويه!